فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (8):

القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} [8].
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} من مقال الراسخين، أي: لا تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذا أقمتها عليه، ولا تجعلها كالذين في قلوبهم زيغ. الذين يتبعون ما تشابه من القرآن، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم: {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} تثبت بها قلوبنا: {إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} كثير النعم والإفضال، جزيل العطايا والنوال. وفيه دلالة على أن الهدى والضلال من قبله تعالى. وعن عائشة رضي الله عنها: قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» قلت: يا رسول الله! ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء! فقال: «ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه». وهو في الصحيح والسنن.

.تفسير الآية رقم (9):

القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [9].
{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} وهذا من تتمة كلام الراسخين في العلم، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا، فإنها منقضية منقرضة. وإنما الغرض الأعظم منه: ما يتعلق بالآخرة فإنها القصد والمآل. فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفاً، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبداً، ومن منحته الرحمة والهداية بقي هناك في السعادة والكرامة أبداً. فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء، ما يتعلق بالآخرة- أفاده الرازي- ثم قال: احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق. قال: وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44]. والوعد والموعد والميعاد واحد. وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد. فكان هذا دليلاً على أنه لا يخلف في الوعيد. والجواب: لا نسلّم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقاً، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل، سلمنا أنه يوعدهم، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد. أما قوله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً}، قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك، كما في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عِمْرَان: 21] وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]. وأيضاً لِمَ لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله، فكان المراد من الوعد تلك المنافع.
وذكر الواحدي في البسيط طريقة أخرى فقال: لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء، دون وعيد الأعداء؛ لأن خلف الوعيد كرم عند العرب. قال: والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك، قال الشعر:
إذا وعد السرّاءَ أَنجز وعده ** وإن أوعد الضراءَ فالعفو مانعه

وروى المناظرة التي دارت بين أبي عَمْرو بن العلاء، وبين عَمْرو بن عبيد. قال أبو عَمْرو بن العلاء لعمرو بن عبيد: ما تقول في أصحاب الكبائر؟ قال: أقول إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً، فهو منجز إيعاده ما هو منجز وعده، فقال أبو عَمْرو بن العلاء: إنك رجل أعجم، لا أقول أعجم اللسان، ولكن أعجم القلب. إن العرب تعدّ الرجوع عن الوعد لؤماً. وعن الإيعاد كرماً، وأنشد:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ** لمكذب إيعادي ومنجز موعدي

واعلم أني المعتزلة حكوا أن أبا عَمْرو بن العلاء لما قال هذا الكلام، قال له عَمْرو بن عبيد: يا أبا عَمْرو؟ فهل يسمى الله مكذب نفسه؟ فقال: لا، فقال عمرو ابن عبيد فقد سقطت حجتك. قالوا: فانقطع عَمْرو بن العلاء.
وعندي أنه كان لأبي عَمْرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول: إنك قست الوعيد على الوعد، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين، وذلك لأن الوعد حق عليه، والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم. فظهر الفرق بين الوعد والوعيد، وبطل قياسك. وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق. فأما قولك: لو لم يفعل لصار كاذباً ومكذباً نفسه، فجوابه: أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتاً جزماً من غير شرط. وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى. فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (10):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [10].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار: {وَلاَ أَوْلاَدُهُم} الذي بهم يتناصرون في الأمور المهمة: {مِّنَ اللّهِ} أي: من عذابه تعالى: {شَيْئاً} من الإغناء، أي: لن تدفع عنهم شيئاً من عذابه. يقال: ما أغنى فلان شيئاً، أي: لم ينفع في مهم، ولم يكف مؤنة. ورجل مغن، أي: مجزئ كاف- قاله الأزهري. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88- 89]، {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} بفتح الواو أي: حطبها، وقرئ بالضم بمعنى أهل وقودها، وأكثر اللغويين على أن الضم للمصدر، أي: التوقد، والفتح للحطب. وقال الزجاج: المصدر مضموم، ويجوز فيه الفتح، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].

.تفسير الآية رقم (11):

القول في تأويل قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [11].
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} خبر مبتدأ محذوف، أي: دأب هؤلاء في الكفر كدأب آل فرعون. والدأب بالسكون، ويحرك مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه، فوضع موضع ما عليه الْإِنْسَاْن من شأنه وحاله، مجازاً، يقال: هذا دأبك أي: شأنك وعملك. قال الأزهري: عن الزجاج في هذه الآية: أي: كأمر آل فرعون، كذا قال أهل اللغة، قال الأزهري: والقول عندي فيه- والله أعلم- أن دأبهم هنا اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي صلى الله عليه وسلم، كتظاهر آل فرعون على موسى عليه الصلاة والسلام. يقال: دأبت أدأب دأباً ودؤوباً إذا اجتهدت في الشيء- انتهى- قال أبو البقاء: وفي ذلك تخويف لهم لعلمهم بما حل بآل فرعون: {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي: من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة، فالموصول في محل جر عطف على ما قبله: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بيان وتفسير لدأبهم الذي فعلوا على طريقة الاستئناف المبني على السؤال المقدر: {فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي: عاقبهم وأهلكهم بسببها {وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: الأخذ بالذنب. فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة.

.تفسير الآية رقم (12):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [12].
{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} بهذا الدين وهم اليهود للزاوية الآتية أو نصارى نجران، لأن السورة نزلت لإحقاق الحق معهم، أو أعم: {سَتُغْلَبُونَ} أي: في الدنيا: {وَتُحْشَرُونَ} أي: يوم القيامة: {إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} الفراش، أي: فكفركم ككفر آل فرعون بموسى، وقد فعل بقريش لكفرهم ما رأيتم، فسيفعل بكم ما فعل بهم، وهو أنكم تغلبون كما غلبوا. وقد صدق الله وعده بقتل قريظة، وإجلاء بني النضير، وفتح خيبر، وضرب الجزية على من عداهم، وهو من أوضح شواهد النبوة. وقد روى أبو داود في سننه والبيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: «يا معشر يهود! أسلموا قبل يصيبكم الله بما أصاب قريشاً» فقالوا: يا محمد! لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش، كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله: {قُل لِّلَّذِينَ} إلى قوله: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ}.

.تفسير الآية رقم (13):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} [13].
{قَدْ كَانَ لَكُمْ} أيها الكافرون المتقدم ذكرهم: {آيَةٌ} عبرة ودلالة على أنكم ستغلبون، وعلى أن الله معز دينه، وناصر رسوله، ومعلٍ أمره: {فِي فِئَتَيْنِ} أي: فرقتين: {الْتَقَتَا} يوم بدر للقتال: {الْتَقَتَا} يوم بدر للقتال: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ} أي: طاعته، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، معهم فرسان وست أذرع وثمانية سيوف وأكثرهم رجالة: {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} وهم مشركو قريش، وكانوا قريباً من ألف: {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ} أي: يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين، أراهم الله إياهم، مع قلتهم، أضعافهم ليهابوهم، ويجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مدداً لهم من الله تعالى، كما أمدهم بالملائكة.
فإن قلت: فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44]، قلت: قللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين. ونظيره في المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، وقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات: 24]، وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم، أبلغ في القدرة وإظهار الآية- كذا في الكشاف- قلت: أو يجاب بأنهم كثروا أولاً في أعينهم ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع، ثم لما حصل التصافُّ والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أَعْيَن هؤلاء ليقدم كل منهما على الآخر ليقضي الله أمراً كان مفعولاً: {رَأْيَ الْعَيْنِ} يعني: رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها، معاينة كسائر المعاينات كذا في الكشاف: {وَاللّهُ يُؤَيِّدُ} أي: يقوي: {بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي: التكثير والتقليل، وغلبة القليل، مع عدم العدة، على التكثير الشاكي السلاح: {لَعِبْرَةً} أي: لاعتباراً وآية وموعظة: {لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} لذوي العقول والبصائر.

.تفسير الآية رقم (14):

القول في تأويل قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [14].
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ} كلام مستأنف سيق لبيان حقارة شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها، وتزهيد الناس فيها، وتوجيه رغباتهم إلى ما عنده تعالى، إثر بيان عدم نفعها للكفرة الذي كانوا يتعززون بها. والمراد بالناس: الجنس- قاله أبو السعود: {حُبُّ الشَّهَوَاتِ} أي: المشتهيات، وعبر عنها بذلك مبالغة في كونها مشتهاة مرغوباً فيها، أو تخسيساً لها، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية {مِنَ النِّسَاء} في تقديمهن إشعار بعراقتهن في معنى الشهوة؛ إذ يحصل منهن أتم اللذات: {وَالْبَنِينَ} للتكثر بهم، وأمل قيامهم مقامهم من بعدهم، والتفاخر والزينة: {وَالْقَنَاطِيرِ} أي: الأول الكثيرة، وقوله: {الْمُقَنطَرَةِ} مأخوذة منها للتوكيد كقولهم ألف مؤلفة، وبدرة مبدرة، وإبل مؤبلة، ودراهم مدرهمة: {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} قال الرازي: وإنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء، وصفة المالكية هي القدرة، والقدرة صفة كمال، والكمال محبوب لذاته، فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب لا جرم كانا محبوبين: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} أي: المرسلة إلى المرعى ترعى حيث شاءت، أو التي عليها السيمياء- أي: العلامة- قال أبو مسلم: المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل، وهي أن تكون الأفراس غراً محجلة: {وَالأَنْعَامِ} جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم لتحصيل الأموال النامية: {وَالْحَرْثِ} أي: الأرض المتخذة للغراس والزراعة: {ذَلِكَ} أي: المذكور: {مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يتمتع به فيها ثم يفنى: {وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} أي: المرجع وهو الجنة، فينبغي الرغبة فيه دون غيره. وفي إشعاره ذم من يستعظم تلك الشهوات ويتهالك عليها، ويرجح طلبها على طلب ما عند الله، وتزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.
تنبيه:
في تزيين هذه الأمور المذكورات للناس إشارة لما تضمنته من الفتنة:
فأما النساء، ففي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء».
وأما البنون، ففي مسند أبي يعلى عن أبي سعيد مرفوعاً: الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة. أي: يجبن أبوه عن الجهاد خوف ضيعته، ويمتنع أبوه من الإنفاق في الطاعة خوف فقره، ويحزن أبوه لمرضه خوف موته، وقد قال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]، وقيل لبعض النساك: ما بالك لا تبتغي ما كتب الله لك؟ قال: سمعاً لأمر الله، ولا مرحباً بمن عاش فتنني، وإن مات أحزنني. يريد قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].
وأما القناطير المقنطرة: ففيها الآية قبل وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6- 7] وقال تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء: 83]، فما يورث البطر مثل الغنى. وبه تستجمع أسباب السؤدد والرئاسة والمجد والتفاخر.
وأما الخيل فقد تكون على صاحبها وزراً: إذا ربطها فخراً ورياء ونواء لأهل الإسلام، كما في الصحيح وفي مسند أحمد عن ابن مسعود مرفوعاً: الخيل ثلاثة: ففرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان. فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله، فعلفه وروثه وبوله وذكر ما شاء الله. وأما فرس الشيطان: فالذي يقامر أو يراهن عليه. وأما فرس الْإِنْسَاْن فالفرس يرتبطها الْإِنْسَاْن يلتمس بطنها فهي تستر من فقر.
وأما الفتنة بالأنعام والحرث ففي معنى ما تقدم. والله أعلم.
ولما ذكر تعالى ما عنده من حسن المآب إجمالاً، أشار إلى تفصيله مبالغة في الترغيب فقال: